غزة- صراع القيم الإنسانية والانقسام الثقافي الغربي.

المؤلف: نبيل الفولي09.01.2025
غزة- صراع القيم الإنسانية والانقسام الثقافي الغربي.

في البدء، أود التأكيد على أن جميع الأفراد والمؤسسات الذين يحملون اسم منظومة ثقافية معينة، يمثلون هذه المنظومة بدرجات متفاوتة. قد يختلف تفسيرهم لها، وقد يتباين أسلوب تطبيقهم لمبادئها على تفاصيل الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن هذه التطبيقات العملية هي التي تكشف حقيقة تمثلهم لتلك الثقافة.

على عكس المقولة الشائعة، فإن التفاصيل لا تخفي الشيطان، بل تكشف عن تعقيدات ومشكلات طبيعية هي جزء لا يتجزأ من الحياة وتحدياتها. هذه المشكلات تتطلب دراسة متأنية وتحليلًا معمقًا، حتى نتمكن من فهم الإجابة العامة التي ذكرتها سابقًا، وحتى نتمكن من حمل المعاني على أوجهها الأقرب إلى الصواب.

التمثيل المتناقض

أولى هذه المشكلات تكمن في أن المنظومة الثقافية الواحدة غالبًا ما يتم تمثيلها بشكل متباين من قبل الأفراد والمجموعات. بعضهم قد يتبنى سلوكًا عنيفًا ومتطرفًا، بينما يفضل البعض الآخر نهجًا أكثر تسامحًا ولطفًا. هل يعكس هذا التباين طبيعة المنظومة نفسها، أم أنه يعود إلى طبيعة البشر النفسية؟

على سبيل المثال، نجد في مختلف الثقافات، سواء في الشرق أو الغرب، الشمال أو الجنوب، من يقدم ثقافته بأسلوب رقيق يحترم الآخر ويراعي حقوقه. وفي المقابل، نجد أيضًا من ينكر الآخر ويلغي حقوقه، بل وحتى إنسانيته، وقد يلجأ إلى العنف المروع في مواجهته. كلا الفريقين يستند إلى حجج مستقاة من نفس المنظومة الثقافية، مما يزيد المسألة تعقيدًا.

لفهم هذه الظاهرة، يجب أن نتذكر حقيقة أساسية، وهي أن أي منظومة ثقافية تعكس بشكل تراكمي نفسيات البشر الذين ساهموا في تأسيسها وصياغتها، وفي تفسير نصوصها وتحديد قواعدها على مر الأجيال. كما تعكس أيضًا الأحداث التاريخية المؤثرة التي شهدتها تلك الثقافة.

هذا البعد يعبر عن النسبية المطلقة التي تحكم سلوك الفرد والمجتمع، حتى في محاولته فهم النصوص المقدسة.

وينتج عن هذا التفاعل بين الإنسان والظروف المحيطة به، وما يترتب عليه من أحداث سعيدة ومحزنة، نافعة وضارة، أن الثقافة تستعد لكل موقف على حدة. فموسم الأمطار ليس كموسم الجفاف، والفرح ليس كالحزن، والرخاء ليس كالشدة.

لذا، فإن الثقافات التي تعيش هذه التقلبات تحتوي على تنوعات نظرية للتفاعل مع هذه المتناقضات. وعلى من يمثل هذه الثقافة أن يستصحب هذا التنوع في سلوكه وتصرفاته. وإلا، فما معنى انتمائه إليها؟

ولأن الإنسان ليس عقلًا خالصًا، كما أجمع على ذلك العلماء والباحثون، فإن للرغبات والميول وطبيعة الشخصية دورًا كبيرًا في اختياراته. بل قد تكون هذه العوامل هي المحدد الأول لتصرفاته.

لذلك، غالبًا ما يتم تفسير المنظومات الثقافية بشكل متناقض، حتى عندما تستند إلى نصوص دينية واضحة. وهذا ما يفسر لنا وجود نماذج مختلفة في التاريخ، تتراوح بين النبلاء الذين يتحلون بالأخلاق حتى في ساحات المعارك، والوحوش الكاسرة التي تمارس العنف في الحياة اليومية.

هذا لا يعني تبرير أي سلوك، أو قبول أي تفسير يقدمه شخص ما لمنظومته الثقافية. بل هو تحليل وبيان ومحاولة للفهم. والصحيح هو التصرف على قدر الموقف والسياق. فالمتطرف المسيحي قد يوظف نصوصًا دينية لتبرير العنف، وقد يفعل الشيء نفسه المسلم المتعصب. وكذلك البوذي الذي ينسى تسامحه ويقتل الآخرين بوحشية. واليهودي الذي يستحضر أفعال العنف القديمة في تعامله مع خصومه.

في هذه الحالات، يغيب الفهم المتوازن القائم على إدراك السياقات المناسبة لتفعيل الجانب الصحيح من الثقافة، وتغيب أيضًا وظيفة الشعور الإنساني والإحساس بالمواقف، وهو أمر فطري وأساسي في طبيعة الإنسان.

لا يهمنا هنا الميزان الأخلاقي فقط، بل يهمنا أيضًا التحليل الباحث عن تعليل وتفسير لهذا السلوك البشري. فإذا لم يكن التصالح ممكنًا، فليكن الفهم والتحليل سبيلًا إلى ذلك يومًا ما!

باختصار، يمكن القول إن أفراد الثقافة الواحدة يقدمون تطبيقات متناقضة في المواقف المتشابهة، بسبب تنوع الأحكام النظرية في تلك الثقافة، واختلاف الطبائع والشخصيات البشرية.

إشكالية الانقسام وتحديد الممثِّل.. غزة نموذجًا

بعد أن أشرنا إلى أن الثقافة والطبيعة البشرية هما أساس الاختلاف، دعونا ندخل في إشكالية أكثر دقة: عندما يكون الاختلاف تناقضًا تامًا بين ممثلي ثقافة واحدة في موقف واحد ممتد، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان يفهمان معنى الكلام الإنساني وحقيقة الأفعال البشرية، فهل يظلان معًا ممثلين لثقافة واحدة؟

الحرب الحالية في غزة هي مثال واضح على هذه النقطة. فمن المستحيل أن يطلع شخص عاقل على أحداثها دون أن يحكم بأنها عدوان وحشي وإبادة جماعية. البعض قد يرى أن أبناء غزة ارتكبوا "خطأ"، بينما يعتبر البعض الآخر أنهم مارسوا "فعلًا مقاومًا للاحتلال" باعتباره حقًا مشروعًا.

هناك اتفاق شبه كامل على أن العقوبة تجاوزت ما اعتبره الطرف الأول اعتداءً بمراحل كثيرة. لذلك، كان يجب أن يكون إيقاف الحرب محل إجماع، وهو ما لم يحدث للأسف.

انقسم الموقف الغربي إزاء أحداث غزة إلى قسمين. الأول، لا يتعاطف فقط مع الاحتلال وإجراءاته العنيفة، بل يمدّه بالأسلحة والتقنيات، ويقدم له الدعم الإعلامي، ويضيّق على منتقديه.

أهم ما يميز هذا الطرف هو كونه في موقع مسؤولية سياسية، أو ينتمي إلى تيار يميني يؤمن بعدم المساواة بين البشر، أو صاحب مصالح اقتصادية ضخمة، أو يخشى سطوة الصهيونية، أو يتماهى مع محيطه الاجتماعي المتعاطف مع الاحتلال.

هذه الميزات أتاحت لهم التدخل المباشر في الأحداث لصالح الاحتلال، وقمع الأصوات المنادية بإيقاف الحرب، بل وحتى الأصوات التي تفضح العدوان.

أما الطرف الثاني، فيمثله الكثير من المشاهير والمنظمات الدولية، بالإضافة إلى قطاع واسع من الشباب الذين يملؤون الشوارع والجامعات بالاحتجاجات، ويرون الحقيقة واضحة. سواء أخطأوا المقاومة الفلسطينية أو اعتبروا فعلها مشروعًا، فإنهم يرون أنه لا ينبغي النظر إليه بمعزل عن السياق التاريخي.

أصحاب هذا الموقف النبيل لا يملكون إلا الصوت والكلمة، وقد نجحوا في الضغط من أجل إيقاف الحرب، وإبراز بقايا الإنسانية في منظومتهم الثقافية.

المؤسف أن المواقف الحاسمة والمؤثرة في أحداث غزة لا تصنعها العواصم العربية والإسلامية، لا رسميًا ولا شعبيًا. لقد فقدت هذه البلاد قدرتها على التأثير في قضاياها المصيرية، وأصبحت تحت سيطرة "الظل الأسود"، كما وصفها الدكتور نجيب الكيلاني.

نعود ونسأل: أي من هذين الطرفين الغربيين يمثل الثقافة السائدة والأكثر تأثيرًا في العالم الآن؟

لا شك أن الجانب الإنساني قد تراجع في هذه الثقافة، لكنه لم ينمح تمامًا. هذا الوجود الضامر كامن في نفوس أفراد هذه الثقافة، ويعبر عن نفسه أحيانًا بتصالح، وأحيانًا بتناقض. فـ "بيل غيتس" مثلًا، الذي تدعم شركته جرائم الاحتلال، هو نفسه أحد أكبر المتبرعين للأعمال الخيرية في العالم.

يمكننا القول إننا أمام تعبير غربي انشطاري إزاء الحدث الغزي. أحد شطريه يتبنى جانبًا من ثقافته، والثاني يتبنى الآخر. وما دام النقيضان لا يجتمعان، فإن امتداد الحدث الغزي سيمثل مزيدًا من الضغط لزيادة التمايز بين الفريقين.

ولكن هل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغييرات عميقة في الموقف الأخلاقي الغربي من الآخر؟

الحقيقة أن هذه المجتمعات قد عاشت هذه الانشطارية من قبل، وإن بصورة أقل حدة، كما حدث في الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لكن لم يعقب هذا الأمر أي تغيير ملحوظ في المواقف الغربية الرسمية من القضايا المشابهة.

يبدو أن الأمر رهن بالنفوذ المالي والسياسي والإعلامي. فمن يدير هذه المجالات هو الذي يربح معارك التغيير والثبات في النهاية.

لكي تكون الحركة الاجتماعية تغييرية، يجب أن تتخذ شكل مؤسسات تعمل في عصب الحياة الحساس للمجتمع، وتركز على المفاصل التي من شأنها أن تحمل مستقبلًا أفضل في التعبير الأخلاقي عن النفس، كالمدارس، وكليات العلوم الإنسانية، ومؤسسات تخريج القادة، والأحزاب السياسية، ومنابر الرأي والكلمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة